الطريق بين حلب والقدس

08:514/12/2024, Çarşamba
تحديث: 4/12/2024, Çarşamba
طه كلينتش

تشير المصادر التاريخية إلى أن نور الدين محمود زنكي (1118-1174م) أحد أعظم الحكام في التاريخ الإسلامي، كان لديه ثلاثة أهداف سياسية رئيسية، أولاً: طرد الصليبيين من الشام والمناطق المحيطة بها، ثانياً: القضاء على الفاطميين لإنهاء الانقسام بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي لتعزيز سلطة الخليفة العباسي السني في بغداد، ثالثاً: فتح إسطنبول. نور الدين، الذي شغل منصب "أتابك" حلب ودمشق (القائد أو الحاكم العسكري) تحت حكم السلاجقة، وعُرف بلقب "الشهيد" رغم وفاته على فراشه بسبب شوقه للشهادة، نجح في إضعاف الصليبيين

تشير المصادر التاريخية إلى أن نور الدين محمود زنكي (1118-1174م) أحد أعظم الحكام في التاريخ الإسلامي، كان لديه ثلاثة أهداف سياسية رئيسية، أولاً: طرد الصليبيين من الشام والمناطق المحيطة بها، ثانياً: القضاء على الفاطميين لإنهاء الانقسام بين الشيعة والسنة في العالم الإسلامي لتعزيز سلطة الخليفة العباسي السني في بغداد، ثالثاً: فتح إسطنبول.


نور الدين، الذي شغل منصب "أتابك" حلب ودمشق (القائد أو الحاكم العسكري) تحت حكم السلاجقة، وعُرف بلقب "الشهيد" رغم وفاته على فراشه بسبب شوقه للشهادة، نجح في إضعاف الصليبيين عبر الحملات التي خطط لها وقادها بنفسه. كما شهد نهاية الدولة الفاطمية بفضل الخطوات التي اتخذها قائده البارز صلاح الدين الأيوبي. ولكن لم يتسن له فتح إسطنبول، إذ لم يكن الوقت قد حان لذلك بعد.


كان نور الدين قد كرّس نفسه لتحرير القدس إلى درجة أنه أمر بصنع منبر فريد من نوعه على يد حرفيي الخشب المهرة في حلب ليتم وضعه في يوم ما داخل المسجد الأقصى حال تحريره. ولأن القدس كانت آنذاك تحت الاحتلال الصليبي، تم وضع المنبر مؤقتًا في الجامع الكبير في حلب.


وقد وصف العديد من الرحالة والمؤرخين الذين رأوا هذا المنبر في الجامع الكبير بحلب، المعروف أيضًا باسم "الجامع الأموي "بأنه "أشبه بسيف جاهز لأن يُستل من غمده". وهو بلا شك من أعظم التشبيهات التي يمكن أن تصف المنبر. ذلك أن مكانه الحقيقي لم يكن في حلب، بل كان مقدرًا له أن يُنصب يومًا ما في المسجد الأقصى، في موضع الصدارة. 


وكل من زار جامع حلب الكبير أو صلى فيه، كان يرى المنبر رمزًا لتحرير القدس الذي لا بد أن يتحقق. وكان كبوصلة روحية ونجم قطبي يُذكّر بحتمية استعادة القدس، ومُذكِّرًا دائمًا بالهدف السياسي والعسكري للأمة. وكان بمثابة خطيب بليغ يردد في أذان المسلمين أن القدس لا يزال تحت الاحتلال الصليبي، وأن عليهم بذل قصارى جهدهم لاستعادته.


قام صلاح الدين الأيوبي أولاً بالقضاء على الفاطميين وسيطر على مصر ثم عمل على استعادة الأمن والنظام في مناطق سوريا والعراق، وفي عام 1187 تمكن من استعادة القدس للمسلمين. ومن بين أولى الأعمال التي تمت بعد الفتح كان نقل منبر نور الدين من حلب إلى القدس. وقد تم وضع هذا المنبر الرائع  بجوار محراب الجامع القبلي، الجزء الأهم من المسجد الأقصى، وبقي هناك لعدة قرون رمزًا لصمود خط المقاومة بين حلب والقدس، حتى تحول إلى رماد في ذلك الحريق المشؤوم عام 1969.


إن مصير المدن العريقة في الشرق الأوسط مترابط كحلقات سلسلة متماسكة. فبعد أن بسط صلاح الدين الأيوبي سيطرته الكاملة على أورفا، والموصل، والرقة، وحمص، وبيروت، والقاهرة، وغزة، تمكن من تمهيد الطريق لتحرير القدس. إذ كانت كل خطوة يتخذها سابقاً لتحرير القدس تتعرض للإجهاض من الداخل. فلم يكن بوسعه طرق باب القدس دون أن يُغلق ملف القاهرة أولاً، كما أدرك أنه لن يتمكن من كسر قيود القدس قبل تحرير الموصل. والتاريخ، قبل صلاح الدين وبعده، حافل بأمثلة لا تُعد ولا تُحصى مشابهة لهذا الترابط المصيري. 


أولئك الذين يعرفون كيف ينظرون إلى الجغرافيا من هذا المنظور الشامل لا شك أنهم شعروا بالفرح والتفاؤل عند مشاهدة الأحداث التي شهدتها حلب في الأسبوع الماضي. ففي نظرهم، حلب ليست مجرد مدينة، بل هي كقلب نابض يضم مدنًا أخرى مثل حلب وأنطاكية ومرعش وأورفا وأضنة، وكانت حدودها تمتد حتى كركوك والموصل. ولم يكن للحدود التي تفصل بينها أي أهمية، إذ كانت المدن متصلة ببعضها البعض دون انقطاع على نفس الخط، تتعانق وتحتضن بعضها بقوة رغم الحدود.


ولكن رغم هذا التصور الشامل للجغرافيا، يبقى الحذر سيد الموقف لدى أولئك الذين يدركون حقائق الواقع والتوازنات القائمة فيه. فالشرق الأوسط، في نهاية المطاف، هو ساحة للصراعات الاستراتيجية المعقدة، وتراكم التحركات، وميدان لصراع القوى المحلية والأجنبية التي تسعى للسيطرة. ويواصل الحذرون دعمهم المخلص لأبناء سوريا الشجعان في نضالهم لاستعادة أوطانهم والمدن التي فقدوها، وهم يدعون بصدق بأن لا ينحرف مسار الأمور مرة أخرى عن هدفه الصحيح.



#حلب
#القدس
#محمود الزنكي
#صلاح الدين الأيوبي
#نور الدين زنكي