يتكافل المسلمون والمسيحيون بقطاع غزة لمواجهة أوضاع غير إنسانية صعبة للغاية، جراء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ نحو 14 شهرا.
بالتزامن مع اشتداد مجاعة تضرب مفاصل الحياة وندرة وصول المساعدات الغذائية والإغاثية، شرع مبادرون مسلمون بتوزيع طرود غذائية على مسيحيين داخل كنيستين في مدينة غزة، للمساهمة في سد رمقهم.
وتأتي المبادرة التكافلية وسط تحذيرات فلسطينية وأممية من المجاعة بقطاع غزة، حيث يعيش نحو 2.3 مليون فلسطيني في أوضاع كارثية جراء الإبادة وحصار متواصل للعام الـ18.
والأربعاء، قالت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" إن الجوع بقطاع غزة وصل إلى "مستويات حرجة، حيث يبحث الناس عن بقايا الطعام في نفايات مضى عليها أسابيع".
** أصناف غذائية
في كنيستي القديس برفيريوس والعائلة المقدسة بمحافظة غزة، وزع مبادرون طرودا فيها أصناف غذائية أساسية باتت نادرة بسبب قيود إسرائيل المشددة على دخول المساعدات، وخاصة بمحافظتي غزة والشمال.
وتشمل الأصناف السكر والشاي والملح والمعكرونة ومعلبات بها فول وحمص، إضافة إلى لحوم بقرية وبعض الفراش.
ورغم أن هذه المساعدات تخفف قليلا من معاناة مسيحيي غزة، إلا أنها تظل غير كافية في ظل المجاعة والحصار المستمرين.
وفي كنيسة برفيريوس يعيش مسلمون ومسيحيون معا، ويواجهون المعاناة نفسها، يفترشون الأرض في ظروف مأساوية ويعانون من نقص المواد الغذائية والخضروات.
وما إن وصلت المساعدات إلى الكنيسة حتى استقبلتها إحدى السيدات المسنات المسيحيات بكل ترحيب، وقدمت للمبادرين الشكر على هذه المبادرة الإنسانية.
ووزع الشبان المسلمون المساعدات داخل الكنيسة في أجواء من التعايش، تحت إشراف الأب سيلاس راعي كنيسة "القديس برفيريوس".
وعادة تعتمد المبادرات الخيرية والتكيات في غزة على شراء مواد غذائية متوفرة في السوق، لكن بأسعار مرتفعة جدا بسبب قيود إسرائيل على دخول المساعدات الغذائية، رغم المناشدات الدولية.
وتحاول هذه المبادرة الخيرية، وفق القائمين عليها، "دعم صمود الطائفة المسيحية بمحافظة غزة، والتي رفضت النزوح والسفر خارج القطاع منذ بدء حرب الإبادة"، وسط قلة المساعدات الإغاثية التي تستهدفهم بشكل خاص وتصل من مؤسسات خيرية في الضفة وفلسطينية داخل إسرائيل.
** صمود المسيحيين
وقال الأب سيلاس، راعي كنيسة القديس برفيريوس، بتصريح للأناضول، إن الكنيسة تؤوي 250 نازحا، بينهم نحو 53 مسلما.
وتابع: "يعيش المسيحيون والمسلمون داخل الكنيسة جنبا إلى جنب ويتشاركون كل تفاصيل الحياة".
ووصف ظروف الحياة داخل مراكز الإيواء بقطاع غزة بأنها "قاسية جدا"، حيث يحتاج النازحون بداخلها إلى "دعم مستمر".
وأردف: "الأوضاع الحالية صعبة جدا والمبادرات الخيرية لها أثر في التخفيف عن كاهل المواطنين والنازحين، ونتمنى استمرارها".
وأكد أن الطائفة المسيحية في غزة "جزء أصيل من المجتمع الفلسطيني وصمودهم على أرضهم أمر طبيعي رغم كل الاستهدافات الإسرائيلية.. نحن أبناء هذه البلاد ولا يمكن أن نغادرها إلا شهداء إلى العلياء".
وأشار إلى أن الجيش الإسرائيلي استهدف قبل نحو عام، خلال حرب الإبادة، كنيسة القديس برفيريوس، ما أسفر عن مقتل 18 نازحا.
وأكمل قائلا: "الشهداء كانوا من المسلمين والمسيحيين، في دلالة واضحة على اختلاط دم أبناء الوطن واحد رغم اختلاف الدين".
وعلى مدار عقود تناقصت أعداد المسيحيين في غزة بفعل الهجرة، وقبل الإبادة الجماعية الراهنة كان عددهم في القطاع لا يزيد عن ألفي شخص، حسب مؤسسات مسيحية.
** قلة المبادرات الإغاثية
المسؤولة بجمعية "جمرة" الخيرية شفا جابر، قال إنه "تم تجهيز الطرود الغذائية بعدد من الأصناف الضرورية دعما لإخواننا المسيحيين في كنيستين بغزة".
وأضافت: "الطرود تضم أصناف شحيحة في السوق بسبب الحصار الإسرائيلي ومنع الاحتلال لإدخال الطعام منذ أكثر من 400 يوم".
وعن سبب استهداف المسيحيين بهذه المبادرة، أجابت: "كان بإمكانهم مغادرة البلاد منذ أول أيام الحرب، لكنهم أصروا على الصمود هنا، وهذا أقل واجب تجاههم".
كما أن المساعدات قليلة، وكان من المفترض دعمهم بكل السبل الممكنة، لذلك قررنا أن نكون سندا لهم في ظل المجاعة والحصار الإسرائيلي، حسب شفا.
وأكدت وجود صعوبة كبيرة في توفير المواد الغذائية، إذ يصل سعر الكيلو غرام من السكر إلى 70 دولارا، وهو ما يعجز الكثيرون عن شرائه بسبب عدم توفر المال والعمل.
وأردفت: "هناك سوء تغذية بين المصابين والأطفال، ونبذل جهودا كبيرة لتقديم المساعدات للمسلمين والمسيحيين على حد سواء".
وأشارت إلى أن جمعيات إنسانية عديدة تقدم مساعدات، وبينها جمعية "جمرة"، وهذه المبادرات تساهم بشكل كبير في تخفيف معاناة المواطنين، ما يعكس روح التضامن بين أبناء الشعب الفلسطيني.
وقالت شفا إن "دعم صمود إخواننا المسيحيين مهم، كونهم مكون خالص من مكونات الشعب الفلسطيني والعمل الوطني والإنساني على مدار عشرات السنوات".
وزادت بأنه سيتم أيضا توزيع "المساعدات لنحو 340 أسرة مسلمة ومسيحية نازحة في كنيستين بشمال قطاع غزة".
** اشتداد المجاعة
ويعاني الفلسطينيون بقطاع غزة سياسة تجويع ممنهجة جراء شح المواد الغذائية بسبب عرقلة إسرائيل إدخال المساعدات الإنسانية، بحسب مؤسسات أممية ودولية عديدة.
ودون جدوى، يطالب المجتمع الدولي إسرائيل بتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية لمنع حدوث مجاعة على نطاق واسع، ومع وجود نحو مليوني نازح.
جراء القيود الإسرائيلية على إدخال المساعدات، استفحلت المجاعة بكافة مناطق قطاع غزة، حيث قلص النازحون وجباتهم الغذائية واعتمدوا في أحيان كثيرة على دقيق تالف كان يتم تحويله عادة إلى طعام للحيوانات.
ويوميا يدخل قطاع غزة 30 شاحنة مساعدات على الأكثر، وهي كميات شحيحة جدا وتعد "نقطة في بحر احتياج الفلسطينيين والنازحين"، وفق تصريحات سابقة لإيناس حمدان، مسؤولة الإعلام بوكالة "الأونروا".
وتختلف مستويات المجاعة في محافظات قطاع غزة الخمس، إذ تسود مجاعة شديدة بمحافظة الشمال التي تشهد منذ 5 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إمعانا إسرائيليا في جرائم الإبادة وتطهيرا عرقيا وحصارا عسكريا مطبقا.
ولعشرات المرات حاولت مؤسسات دولية إدخال مساعدات إغاثية وإنسانية وطبية إلى المحافظة المحاصرة، إلا أن الجيش الإسرائيلي منع ذلك، لإجبار الفلسطينيين على النزوح جنوبا.
وهذا ما أكده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" بتقرير في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بقوله إن إسرائيل منعت "لنحو شهر جميع المحاولات التي بذلتها المنظمات الإنسانية لإرسال المواد الغذائية إلى السكان في المناطق المحاصرة بمحافظة شمال غزة".
أما محافظة غزة، التي يفصلها عن الوسطى محور "نتساريم" الذي يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي، فامتدت إليها المجاعة بعد أقل من شهر من حصار الشمال، إذ فرضت إسرائيل أيضا قيودا شديدة على وصول المساعدات إليها، وفق بيانات فلسطينية رسمية.
وفي محافظتي الوسطى (تضم دير البلح والزوايدة ومخيمات النصيرات والبريج والمغازي) وخان يونس جنوب قطاع غزة، واللتين تقعان جنوب محور "نتساريم"، تصل إليهما مساعدات شحيحة لا تلبي احتياجات النازحين ويتم توزيعها عبر مؤسسات أممية مثل "الأونروا".
أما محافظة رفح أقصى جنوب القطاع، فهي شبه خالية من السكان والنازحين، وفي العادة لا تصلها مساعدات، وإنما تتجه إلى خان يونس والوسطى.
وضمن فترات طويلة ومتباعدة، تحاول طائرات مجهولة المصدر إلقاء مساعدات على مناطق مختلفة على محافظتي غزة والوسطى وخان يونس.
لكن عمليات الإلقاء تفشل وتسقط المساعدات في مواقع قريبة من أماكن تمركز الجيش الإسرائيلي أو في البحر المتوسط، ما يعيق وصول النازحين إليها، فضلا عن تنفيذ عمليات إسقاط فاشلة أحيانا تتسبب بمقتل فلسطينيين.
وبدعم أمريكي ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية خلفت نحو 149 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
وتواصل إسرائيل مجازرها متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بإنهائها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.